الدكتور محمد عباس طبيب و أديب من دلتا مصر ، و تحديدا من طنطا، كشف النقاب عن فضيحة وزارة الثقافة المصرية و نشرها لكتاب"وليمة لاعشاب البحر" ومنذ ذلك الحين تعرض لمضايقة السلطات المصرية و حظرت نشر مقالاته في مصر ، وكأنه كتب شيئا مشينا يستحق عليه هذا العقاب. يتشرف نادي القلم بان يقدم هذه الباقة المختارة من مقالاته التي يمزج فيها الحس الادبي بقضايا الأمة ، يمكن أن نطلق عليه الادب السياسي الهادف، فاسلوبه يجعلك تشعر بالمشكلة التي يحدثك عنها و كانها قرع الاجراس ، فيجعلها قريبة من اذنيك و حواسك، و تشعر و كانك تجلس امامه و هو يخط بقلمه هذه الكتابات
والان اترككم مع المقال
هذا حديث ثقيل على قلب كاتبه وقارئه وعلى قلوب أولى الأمر..
حديث لم يدعنى إليه أحد .. فلا رأيى ولا رأى أى كاتب فى أمتنا العربية مطلوب.. إلا إذا كان هذا الكاتب .. من كتبة السلطة السريين - كالشرطة السرية - .. لا دور له إلا أن يمتدح ويبرر.. فإذا ارتفع عند السلطة مقامه.. سمحوا له بأن يكون صماما ينفس عن بعض غضب الناس وإحباطهم.. بإبداء قدر من المعارضة أو الانتقاد..
***
فكرت والقلب ينزف أن أتناول الموضوع ساخرا.. باحثا عن حلول أزعم أنها عبقرية.. أعرضها على القوم.. كل القوم.. موجها حديثى إلى سادتى فى الولايات المتحدة باعتبارها الوريث الشرعى لروما وبيزنطة وباريس ولندن.. والممثل الرسمى لكل قوى الاستعمار والصليبيين فى التاريخ .. فكرت أن أفضى إليهم بحل عبقرى.. لا لمشكلة القدس فقط.. بل لمشكلة هذا الجزء من العالم..الذى بلغ من سأمهم واشمئزازهم منه أن اعتبروا أن العربى الوحيد الطيب.. هو العربى الميت (هذا القول .. ينطبق بالطبع أكثر ما ينطبق.. على الكتاب..!!)..
نعم فالحل العبقرى الذى أقدمه يحل المشكلة من جذورها..مشكلة العرب وعالمهم الغريب الذى جرؤ لألف عام.. لا أن ينافسهم فقط.. بل أن ينتزع منهم قصب السبق.. ليكون أعظم قوة فى العالم وأنبل حضارة.. هذا الحل العبقرى الساخر.. لا يأتى من فراع.. بل هو مستمد من فكر الإرهابيين العرب.. الذين طالما واجهوكم وواجهوا الإسرائيليين بأن يعودوا من حيث أتوا.. الحل إذن عند العرب غير الطيبين- لأنهم عير موتى- هو تفريغ فلسطين من اليهود.. فلماذا لا نرد الصاع إليهم .. بأن نفرغ الدول العربية من العرب.. ذلك هو الحل العبقرى الذى يقضى بأن تعلن الولايات المتحدة عن فتح باب الهجرة للعرب.. وتصورت أن 90% من شباب العالم العربى سيذهب.. لتبدأ رحلة جديدة للعبيد.. كانت فى سالف الزمان إجبارا.. لكنها ستتم الآن اختيارا وبين الإجبار والاختيار نزف الدم نزف الوعى نزف الدين.. فكرت أن أتصل بالسفير الأمريكى.. أقول له : لن يعجزكم أمر مائة مليون شاب عربى.. أو حتى مائتين..خذوهم..لن يحتاجوا منكم أى مجهود.. فقد تمت بالفعل غوايتهم..أغوتهم أجهزة إعلام بلادهم.. و.. و.. و.. لديكم أعظم خبرات الدنيا فى الإبادة أو التهجين .. تولوا أمرهم كما توليتم أمر الهنود الحمر.. لو فعلتم ذلك.. وفى غضون أعوام قليلة.. ستخلو الدول العربية من معظم أبنائها.. ولن يبقى سوى العرب الطيبين- أى الذين ماتوا- .. وبهذا لن يكون لدى إسرائيل أى مشكلة .. ليس فى الاحتفاظ بالقدس فقط.. بل فى أن تنفذ مشروعها الكبير: من النيل إلى الفرات.
فكرت فى حلول أخرى هزلية.. منها أن نسمى أى بلد فى فلسطين أو الأردن أو لبنان أو سوريا أو مصر : القدس.. وتنتهى المشكلة.. فكرت فى هذا الحل الهزلى الساخر لكننى اكتشفت أن بعض سادتنا قد سبقونا إليه.. بل ويعاملونه بمنتهى الجدية..
فكرت أيضا فى أن تتكفل العبقرية التكنولوجية الأمريكية باستنساخ المسجد الأقصى بحيث يكون فى كل بلد إسلامى مسجده الأقصى فترتاح إسرائيل إلى الأبد من التلوث البيئى بالعرب والمسلمين..
فكرت فى ذلك.. وفى غيره.. لكن السخرية انقلبت علىّ.. حين وجدت قلبى ينزف..
***
فكرت أن أواجه ولاة أمورنا بطريقة " الساذج" وهو بطل رواية شديدة العذوبة.. إن لم تخنى الذاكرة لفولتير.. وهى تتحدث عن شخص شبه متوحش يجدون فى جزيرة فيأخذونه إلى بلادهم.. فيكشف لهم يوما بعد يوم زيفهم.. زيف السياسة والكنيسة والنخبة والشعارات والأخلاق.. فكرت أن أواجه ولاة أمورنا بطريقة الساذج.. فأذكرهم بما كان.. وأن ما يتهموننا به الآن هو بعينه ما صبوه فى وجداننا.. وأننا ندافع عن مواقفهم هم منذ عشرين أو ثلاثين عاما.. أنهم هم الذين تغيروا وليس نحن.. وأننا حين فرطنا كشعوب فى حقوقنا يوما بعد يوم.. فقد كان ذلك من أجل قضيتنا الكبرى.. قضية فلسطين.. وأنهم لم يتقبلوا منا مشاركة ولو بالرأى فى أى يوم.. صرخوا فينا دائما أن لا صوت يعلو على صوت المعركة .. فحرصنا على ألا يسمعوا وجيب قلوبنا.... قادوا سفننا وتولوا حكمنا: اربطوا الأحزمة على البطون فالأوطان فى خطر.. ورحبنا.. لا حديث عن الحرية فالعرب مستهدفون.. ورحبنا.. سنلبى لكم كل ما تريدون ولكن بعد النصر.. فما استعجلنا.. دعونا نعمل فى صمت.. فما تململنا .. ثم فجأة قادونا كالخراف إلى كامب ديفيد الأولى وكالنعاج إلى مدريد وكالسائمة إلى أوسلو وكامب ديفيد الثانية..
وعاد صوتهم: لا تقلقوا .. سنأتى لكم بالسلام العادل..
فيم كان إذن كل القهر والذل الذى عانيناه ونحن نسير خلفكم مغمضى العيون موصدى الآذان نمنى نفوسنا بحلاوة النصر حين يجىء ..
وفيم إذن كان كل القهر والذل والبطش والجبروت أن صدقناكم فانتظرنا سلاما عادلا مع أن للسلام العادل عندنا معنى واحد..
ضيعتمونا.. ليست القدس هى التى تضيع بل تضيع بعد أن ضاع الكل..
يا إلهى.. منذ متى ونحن ننخدع.. خديعة مزدوجة.. أنتم تنخدعون بوعود الغرب ونحن ننخدع بحديثكم..
بل إنكم فى حديثكم مع الخليفة كلينتون.. لم تقولوا له أنكم مصرون على استعادة القدس لأن ذلك هو الدين والحق والعدل.. بل قلتم له أنكم تخافون بطش شعوبكم..
وكأنكم معهم علينا ..
وكأنه لا مانع عندكم بأن تسلموا لهم بما يريدون لولا شعوبكم..
أفدح من ذلك و أنكى ما سربه إبراهيم نافع فى الأهرام من أن هناك العض منا قد وعدوا أمريكا بما يرضيها فى مسألة القدس..
***
يا إلهى.. إنها هزيمة شاملة كاملة..
والأمر يعود حتى إلى ما قبل إسرائيل.. كنا نطيعكم وكنتم تطيعوهم..
- الإسلام ليس مبررا للاحتلال التركى.. الدين لا يقيم دولة وتركيا دولة احتلال فاستقلوا.. سننشئ دولتنا العربية الكبرى وتكون الخلافة فينا ..
أطعناكم .. ضاعت الخلافة.. وضاعت الدولة الإسلامية.. ولم تولد الدولة العربية..
- لا.. سنبحث عن حل آخر.. القومية العربية..
- لا بأس .. وأطعناكم..
لكن القومية أصيبت بالشلل فى سيناء سنة 67 .. ثم عشنا معها بعد ذلك نتجرع علقم العجز حتى وافتها المنية فدفنت فى الخليج عام 91..
- أى قومية تلك التى تتحدثون عنها.. القومية تخلف.. ثم ما الذى يربط المصرى ذا الحضارة الموغلة فى التاريخ أكثر من سبعة آلاف عام ببدوى جاهل؟.. وما الذى يربط الشامى بالمغربى..
لكن الصوت فى الطرف الآخر كان يقول
- أى قومية.. ما علاقة العرب بالفراعنة..؟.. إن المصريين كالسوريين كالعراقيين كالأتراك يريدون احتلال بلادكم.. شحاذون طامعون فى ثرواتكم.. دعوا القومية إلى القطرية.. مصر أولا ومصر أخيرا.. مصر قبل الجميع.. سوريا قبل الجميع.. العراق قبل الجميع الحجاز قبل الجميع.. الكويت قبل الجميع.. الخليج قبل الجميع ..
تبلبلنا.. لكننا أطعناكم.. فلما اندفعنا إلى القطرية بدأ أسر الأقطار وحصارها .. فما من قطر غير مرتهن وغير مهدد.. اكتملت الدائرة لنعود من حيث بدأنا.. فإذا بهم يثيرون الفتن الطائفية لتبرز دعاوى تقسيم الأقطار على أساس دينى .. السودان مهدد والعراق مهدم ومصر مهددة والمغرب مهدد ولإسرائيل مطالب دينية فى المدينة المنورة .. التقسيم على أساس دينى.. الأساس الذى حرضونا على الدولة الإسلامية من أجله!!..
***
فى لقاء مع السيد حسين الشافعى نائب رئيس الجمهورية السابق فى مصر، وهو أنبل من عرفت من ضباط ثورة يوليو52 وأعزرهم علما، وأكثرهم اهتماما بهموم الأمة.. وكنت أقول له:
لقد حكمتم على أنفسكم بالهزيمة من اللحظة الأولى.. لأنكم أغفلتم ألفا وخمسمائة عام من الصراع لم تتوقف فيها الحروب الصليبية يوما واحدا.. اعتبرتم إسرائيل هى العدو الاستراتيجى لمصر.. وكان ذلك خطأ قاتلا.. نعم .. أنا معك.. لو أن إسرائيل هى العدو لكفتنا مصر أو حتى سوريا أمرها.. لكن الأمر لم يكن كذلك.. كان أكبر بكثير.. كان صراعا بين حضارتين..وهو صراع سيظل ناشبا حتى يوم القيامة.. ولمثل هذا الصراع أدوات وآليات وقوانين أخرى.. منها أن نقاتلهم كافة كما يقاتلوننا كافة.. ومنها أن نكثف كل جهودنا لتوحيد العالم الإسلامى.. و.. و.. و..
لم تضعوا كل ذلك فى حسبانكم.. كنتم كمن يحسب أنه يصطاد ثعلبا أو ذئبا فأعد عدته فإذا به يفاجأ أنه يواجه سربا هائلا من النمور والضباع.. لذلك كان حتما أن تنهزموا..
***
تجاوزت مساحة المقال ولم أتكلم بعد عن القدس..
لكن.. ليس لدى الكثير لأقوله..
إن جورج الخامس يفاوض جورج الخامس..
فليفاوضه..
لكن الأمة لن تسبغ شرعيتها على أى اتفاق.. حتى لو حدث المستحيل وعادت القدس الشرقية كلها.. (وذلك لن يحدث).. فماذا عن الغربية.. وماذا عن فلسطين كلها.. الوديعة التى استودعناها عمر بن الخطاب فأضعناها.. وماذا عن العراق .. وماذا عن السودان.. وماذا عن ثارات ألف عام؟!..
***
رحت كعادتى حين يثقل الألم قلبى أترنم بقصيدة مظفر النواب: " القدس عروس عروبتكم".. لكننى غيرت كلمة.. فرحت أترنم:
القدس قتيل عروبتكم..!!